النهار - بقلم روزانا بومنصف

14 تموز 2020
اعطى الدفع الذي اكتسبته انتفاضة 17 تشرين الاول شرعية لغضب الناس ومطالبهم بحيث وجد طريقه اولا الى الضغط الخارجي من عواصم مؤثرة على اهل السلطة في لبنان من اجل ان يأخذوا في الاعتبار تلبية مطالب المنتفضين وثانيا الى دفاع البطريرك الماروني عن مطالب المنتفضين وعدم استهدافهم او تحميلهم مسؤولية الانهيار الذي تتحمل مسؤوليته قوى السلطة. ثمة تساؤلات كبيرة حول الانتفاضة ومآلها برزت اولا على خلفية الانهيار الكبير في سعر صرف الليرة اللبنانية ووصول الدولار الاميركي الى عشرة الاف ليرة علما ان جماعات ” تخريبية” اخذت الانتفاضة الى مكان اخر حين ارتفع الدولار الى اربعة الاف ليرة. لكن وان استمرت بعض التحركات فان نموذج 17 تشرين الاول وما تلاه لم يتكرر على رغم استمرار الغضب انما في ظل توسع الجوع والفقر. وثانيا على خلفية التساؤل اذا كانت الانتفاضة حية نتيجة الاستثمار السياسي فيها لغايات معينة وفي اتجاهات معينة بحيث باتت مستخدمة علنا على غير ما يطمح فيه اللبنانيون.
في الاسابيع الاخيرة برزت محاولات لتأطير الانتفاضة وابقائها حية على قاعدة تنظيمها. وكان من بينها اخيرا فكرة انتاج ً صيغة تحالف جبهوي لقوى الانتفاضة، تأسيسا على تكاثر التحديات الراهنة وجسامتها، سواء على قوى التغيير أو على الشعب اللبناني برمته وذلك تحت عنوان “الجبهة المدنية الوطنية” ً التي ستنطلق رسميا منتصف هذا الاسبوع، وذلك علما ان هذه الحركة لن تنطلق وحدها ايضا. فثمة من يتحرك تحت عنوان الانتفاضة ايضا. ينبغي الاعتراف بان ما يسمى قوى “النخبة” في لبنان كانت ولا تزال مطالبة بتشكيل قوة ثالثة بديلة من القوى السياسية والطائفية المشكو منها والمتحكمة برقاب اللبنانيين سيما وان الخارج الذي دعم ولا يزال المجتمع المدني لطالما تساءل عن هذه القوة التي تشكلها الانتلجنسيا اللبنانية علما ان الكثير منها يهاجر وحظى بمواقع مهمة في ابرز عواصم العالم فيما هو حض على تنظيم الانتفاضة نفسها مرارا وتكرارا لكي تضغط على السلطة السياسية. فليس ان هذه الاخيرة تم اختراقها وتحويل غالبية مطالبها للتوظيف من
قوى سياسية متعددة الا انها لم تنجح كذلك لا في بلورة قيادة تحدد وتنظم مطالب المنتفضين كما تستطيع ان تتحدث باسمهم او تحاور بدلا منهم. ومع انه جرت محاولة لاستمالة بعض من برزت اسماؤهم في انتفاضة 17 تشرين من خلال الكلام على توزيرهم لدى تأليف الحكومة، فان واقع الامر ان السلطة استطاعت تفريق هذه القوى وتحكمت باجندات فئات منهم وفق ما كشفت طبيعة بعض التظاهرات او الشعارات. المثير للاهتمام في لبنان ان شخصيات متعددة مثقفة ومتعلمة ولها صدقية دعمت الانتفاضة ولا تزال فيما اخذ عليها عدم امكان توافقها من دون اسباب واضحة على رفد الانتفاضة او توجيهها نحو اتجاهات معينة بحيث تفرض التغيير عبر مطالب محددة. فاذا كان الشباب المنتفض يفتقد الى الخبرة والعلاقات والادارة المباشرة، فان الانهيار الذي دفعت به حكومة اعتبرت نفسها ممثلة للانتفاضة ومتحدثة باسمها لم تنجح سوى في تمثيل القوى السياسية التي اتت بها بعيدا من هموم الناس ومطالبهم. ولكن المطالب بقيت مشتتة وغير متماسكة وان
كان عنوانها الكبير هو الفساد واستبدال الطبقة السياسية. ينبغي الاقرار ايضا بان هناك يأسا متعاظما لدى اللبنانيين من اي قوة تغيير تستطيع ان تستحوذ على ثقتهم وتاليا دعمهم. كما ينبغي الاقرار بان الموقف المهم الذي اعلنته بكركي اخيرا بطلبها فك الحصار عن الشرعية ومناشدة الامم المتحدة المحافظة على سيادة لبنان شكلت زخما للنخب الداعمة للانتفاضة على خلفية ان بكركي ايضا دافعت عن المنتفضين كما انها تشكل مظلة داعمة ولو غير مباشرة لاي تحرك يترجم مطالب الناس ويضغط في اتجاه التغيير. فبكركي في حد ذاتها باتت تختصر في ذاتها لقاء قرنة شهوان الذي رعت قيامه في 2001 .لا لقاءات مماثلة راهنا لكن بكركي استطاعت بهذا الموقف الوطني ان تستقطب دعما من كل الاتجاهات الطائفية وتطلعا الى تحرك ما ينقذ البلد من انهيار محتوم. لكن النخب اللبنانية ملزمة عدم الصمت والتفرج فحسب على انهيار تتولاه قوى السلطة. اذ يبقى امكان قوة تنظيمية تعطي هوية واضحة للانتفاضة وتعبر عنها لا سيما وان اهل السلطة عاجزون عن الاصلاح وغير راغبين في اجرائه وحساباتهم المباشرة المصلحية تهوي بلبنان الى الحضيض تحديا كبيرا في هذه المرحلة. المهم في هذا السياق على رغم عدم النجاح حتى الان ان اي بحث تنظيمي انما يتطلع إزاء تنوع قوى الانتفاضة، الى التمسك بـ “الهوية الوطنية الجامعة رغم التمايزات، لكن مع التركيز على ترتيب الأولويات”، ووفق هؤلاء “هناك ضرورة، داخلية وخارجية، لتقديم رؤية بديلة للحكم وإدارة الشأن اللبناني، وإنتاج قيادات بديلة تحظى بثقة ومصداقية كل المهتمين بالمسألة اللبنانية وكل الحريصين على نجاح الانتفاضة”. ويترافق ً ذلك مع الرغبة في إشعار المجتمعين العربي والدولي أن ثمة متغيرا حصل على صعيد الانتفاضة، وهذا المتغير قادر على إحداث توازن بين السلطة والثورة ليس على قاعدة الرفض والمعارضة فقط، بل على قاعدة إطلاق مشروع وطني متكامل للتغيير والإصلاح. الا ان كثرا يخشون ان يكون مشروع تأطير الانتفاضة سرابا باعتبار انه يكفي النظر الى الانهيار الحاصل تفاديا لاي تنازل تقدمه قوى السلطة على قاعدة ان اي ثمن ممكن دفعه حتى لو كان انهيار البلد لقاء عدم التخلي عن اي مصلحة من مصالحها وهي تعيد انتاج نفسها وتمنع اي تغيير. لكن سيكون مجحفا وقاتلا للبنان ايضا عدم المحاولة من
شخصياته النخبوية تقديم بديل مدني واصلاحي ايضا بغض النظر عن النجاح او الفشل ولو ان هذا الاخير سيشكل احباطا لا يقل عن الاحباط من قدرة القوى السياسية على توظيف الانتفاضة واستخدامها لمصلحتهم في نهاية الامر.