اللواء - مقالات - بقلم أحمد الزعبي

20 تموز 2020
في مئوية لبنان، كل شيء يَشي بأن هذا البلد مقبلٌ على مرحلة مفصلية، الانهيار الشامل ليس قدراً، بل بفعل فاعل.. وكذلك الإصلاح. ثمةَ ما يُشبه السباق بين منطق الحفاظ على الهوية وثوابت الكيان والدور ومقومات الاستمرار، وبين الإمعان بالارتهان والفساد والانسلاخ عن المحيط والعالم. وما تشير إليه معطيات الداخل تؤكده مؤشرات الخارج.

من الفاتيكان إلى باريس فالرياض والقاهرة

في المشهد الأوسع، وعلى مسافة أشهر من الانتخابات الأميركية، تبدو إيران أكثر من أي وقت مضى على جدول اهتمامات إدارة ترامب، مع ترجيح زيادة هذا «الاهتمام» خصوصاً مع نجاح سياسات الضغط والعقوبات، مع ما يعنيه ذلك من تداعيات تطال حتماً الداخل اللبناني، وهو ما عبّر عنه أكثر من مسؤول أميركي، لكن ذلك لا يلغي احتمالات أخرى قد تكون مغايرة تماماً.

في الشق الخارجي أيضاً، ولعله الأبرز، العناية الخاصة التي يوليها الفاتيكان حالياً للوضع اللبناني، في ظل معلومات تشير إلى أن دوائره تتشارك وعواصم كبرى المخاوف العميقة من تدهور الأوضاع في لبنان وعلى هوية هذا البلد، ولأجل ذلك تواصل بحث إمكانات مساعدته والتشاور في سبيل تفادي الأسوأ. وهو ما ينسب على موقف باريس حيث استبق وزير خارجية فرنسا جان – ايف لودريان زيارته لبنان بالتأكيد أن «فرنسا لا يمكنها القيام بأي شيء إذا لم يتخذ اللبنانيون أنفسهم المبادرة الضرورية للنهوض ببلدهم»، متوجهاً إلى المسؤولين اللبنانيين بالقول «ساعدونا لنساعدكم»، وأغلب الظن أنه يعلم جيداً أن هؤلاء لن يفعلوا! وكل ذلك يعكس اليأس الدولي من الإصلاح في لبنان ومن التعامل مع السلطات اللبنانية القائمة.

بالتوازي، تبرز حركة سفيري السعودية ومصر في بيروت وليد البخاري وياسر علوي التي تنطلق أيضاً من حرص الرياض والقاهرة التقليدي على استقرار لبنان، ومن إدراك لخطورة ما وصلت إليه الأوضاع البلد في ظل حالة الانسداد التي تؤشّر، بحسب المتابعين، إلى سيناريوات ليست عادية، وسط حديث متكاثر عن احتمالات لجوء الأطراف المربكة حالياً إلى المغامرة من خلال الهروب إلى الأمام صرفاً للأنظار عن فشلها في إدارة شؤون البلد، وإلهاءً للشعب عن فظائع تجويعه وإفلاسه وإذلاله، وهو ما استدعى حركة التشاور الواسعة، والعاجلة في بعض الأحيان.

بكركي وحراسة الكيان

في المقابل، المشهد الداخلي المشدود إلى انهيار شامل في ظل عهدٍ شاخَ وانتهى قبل أوانه، يراوح بين عدة مؤشرات، أبرزها:

أولاً: مواصلة رئيس الحكومة محاربة الأشباح التي تعمل على عرقلة ما يعتبره إنجازات لحكومته، وهو حسم أمره معلنا أنه لن يستقيل، ما يعني أن على اللبنانيين إلى جانب تجرعهم ويلات الإفلاس والغلاء ونقص السلع أن يتعايشوا مع حكومة لا عمل لها سوى تبرير الفشل وإلقاء اللوم على الآخرين. الرئيس دياب يعلم جيداً أن بقاء حكومته ليس لثقة أحد بها، حتى رعاتها الأكثر فشلاً، بل لأسباب ترتبط بحسابات أخرى، ولا داعي للقول بأن لا بديل عنها حالياً.

ثانياً: عدم تمكن القوى السياسية من خارج الحكومة من تكوين معارضة وازنة جدية تضغط باتجاه تصحيح الإختلال، مكتفية بمواقف جزئية بحسب الملف أو الظرف والتعويل على استثمار المزاج الشعبي المحبط من السلطة وأدائها، وهذا يتصل في جزء منه بالحسابات الرئاسية من جهة، وبالتريث الى حين انجلاء المشهد الإقليمي من جهة ثانية.

ثالثاً: مواقف البطريرك الماروني بشارة الراعي حول الحياد والشرعية والقرار الوطني والحفاظ على هوية لبنان ورسالته وطبيعة نظامه السياسي والاقتصادي وعلاقته بالشرعيتين العربية والدولية، والتي تتزامن وذكرى مئوية لبنان التي تعني في رمزيتها الكثير للبطركية المارونية والمسيحيين ولكل المؤمنين بهوية لبنان وميثاقه الوطني وعيشه الواحد، وتعني أيضاً كل الخائفين على هذه التجربة – النموذج من الاندثار.

وأخيراً، انتقال قوى ومجموعات وشخصيات عدة من مكونات انتفاضة 17 تشرين إلى تأطير حركتهم في تكتلات تنسيقية وهو ما برز خلال الأسبوع الفائت في أكثر من مسعى كان أبرزه إطلاق «الجبهة المدنية الوطنية»، إيماناً، بعد طول انتظار، بأن التشتت جزء من تكتيكات مشبوهة لتفريغ زخم الانتفاضة، وإظهارها عاجزة عن التوحد والمبادرة، وهذا تحديداً ما تريده السلطة، بل ما تراهن عليه لإعادة انتاج نفسها.

الجبهة المدنية والبدائل الممكنة

إذن، وسط هذه الصورة، جاء إطلاق «الجبهة المدنية»، بما هي إطار تنسيقي يستشعر مخاطر فجوة استمرار حالة التشرذم لدى مكونات الانتفاضة بوصفها، هي أصلاً، الأمل شبه الوحيد في التحرر من أَسر الطبقة السياسية، وهي طرحت وثيقة تأسيسية «جامعة»، تضمنت كل العناوين السيادية والإصلاحية، مع برنامج منطقي يمكن أن يشكّل جسر عبور للانتقال بالانتفاضة من مستوى تكرار رفع المطالب إلى مستوى تنسيق وتوحيد الجهود ووضع البلاد في حال تحققت هذه المطالب على سكة الخلاص، وهي بذلك تجيب عن أسئلة داخلية وخارجية، بل تتقصّد القول بأن البدائل، بالحدّ الأدنى، ممكنة، وبالحدّ الأعلى واجبة الاجتراح على كل القوى السيادية والمؤمنة بإمكانية الإنقاذ واستعادة الدولة وتكريس الحكم الرشيد وإنتاج برامج اقتصادية واجتماعية إنقاذية قابلة للحياة، وقادرة على معالجة الانهيار والفشل والعزلة التي رُمي فيها لبنان، مع ما يحتاجه كل ذلك من شَرطي: الحكومة المستقلة والانتخابات العادلة والنزيهة.

وبحسب المعلومات فإن وثيقة الجبهة ستُستكمل بملحق يتضمن تصوراً للإصلاحات المطلوبة لتحقيق رؤيتها، تشمل: الإصلاحات السياسية، والإصلاحات الهيكلية المتصلة بمكافحة الفساد، واستقلالية القضاء، وإصلاح قطاع الكهرباء، وتطوير بيئة الأعمال، والجمارك والمعابر، ونظام الحماية الاجتماعية، ومصرف لبنان، وكذلك الإصلاحات القطاعية من خلال وضع رؤية استراتيجية لاقتصاد منتج يطلق محركات النمو، وتشمل قطاعات اقتصاد المعرفة، والزراعة والصناعة والسياحة وأسواق المال.

ما عاد جائزاً القول بأن البدائل غير موجودة، وما عاد جائزاً أكثر منحُ السلطة أُوكسجيناً إضافياً للاستمرار من خلال عدم معالجة ثغرات أثّرت على دينامية الانتفاضة وشعلتها ومشروعها وتتمثل بغياب التنسيق حول البرنامج المتكامل. البرنامج موجود، ولو بتوجهات مختلفة، والمطلوب تأطير القوى والمكونات والإمكانات وصولاً إلى التغيير… وهنا يبدأ التحدي.